فصل: سورة الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وتحققت هذه الدعوة وفق قدر الله وتدبيره بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم.. {رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. كما قال إبراهيم! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم: {إنك أنت العزيز الحكيم} هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا: {وهو العزيز الحكيم}.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: «دعوة أبي إبراهيم. وبشرى عيسى. ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام».
{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}..
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين؛ وليرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم، وتغيير ما بهم، وتمييزهم على العالمين..
{ويزكيهم}.. وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير للضمير والشعور، تطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية.
تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح. وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني. ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال.. إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع. تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ الأعلى؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم.
{ويعلمهم الكتاب والحكمة}.. يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل الكتاب. ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور، ويحسنون التقدير، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير.
{وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.. ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليكرّهاه في المهاجرين من المسلمين، ويشوها موقفهم عنده، فيخرجهم من ضيافته وجيرته.. فقال جعفر: أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات، ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى عليه السلام، ولا من بعده. حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة.
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية، ومن انحلال الحضارة في الإمبراطوريات الكبيرة، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول: ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى. لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها.
وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام. وكانت المدنية، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه..
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي. وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاماً وظلاماً!
وقد اختار الله سبحانه تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء. فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
{وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}..
وهؤلاء الآخرون وردت فيهم روايات متعددة..
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء»فهذا يشير إلى أن هذا النص يشمل أهل فارس. ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»ثم قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}.. يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلا القولين يدخل في مدلول الآية. فهي تدل على آخرين غير العرب. وعلى آخرين غير الجيل الذي نزل فيه القرآن. وتشير إلى أن هذه الأمة موصولة الحلقات ممتدة في شعاب الأرض وفي شعاب الزمان، تحمل هذه الأمانة الكبرى، وتقوم على دين الله الأخير.
{وهو العزيز الحكيم}.. القوي القادر على الاختيار. الحكيم العليم بمواضع الاختيار..
واختياره للمتقدمين والمتأخرين فضل وتكريم:
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}..
وإن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه، والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض.. إن اختيار الله هذا لفضلٌ لا يعدله فضل. فضل عظيم يربى على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته؛ ويربى على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد.
والله يذكر الجماعة المسلمة في المدينة، والذين يأتون بعدها الموصولين بها والذين لم يحلقوا بها. يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة، ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي، ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى. يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم، وجميع النعم؛ كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام..
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل:
{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}..
فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة.. {ثم لم يحملوها}.. فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم وكما هي في حقيقتها لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة. ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها. فهو ليس صاحبها. وليس شريكاً في الغاية منها!
وهي صورة زرية بائسة، ومثل سيِّئ شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}..
ومِثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها. والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين. بخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب، وهم لا ينهضون بما فيها.. أولئك كلهم، كالحمار يحمل أسفاراً. وهم كثيرون كثيرون! فليست المسألة كتب تحمل وتدرس. إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب.
وكان اليهود يزعمون كما يزعمون حتى اليوم أنهم شعب الله المختار، وأنهم هم أولياؤه من دون الناس وأن غيرهم هم الجوييم أو الأمميون أو الأميون.
وأنهم من ثم غير مطالبين بمراعاة أحكام دينهم مع غيرهم من الأميين: {قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}.. إلى آخر هذه الدعاوى التي تفتري الكذب على الله بلا دليل! فهنا دعوة لهم إلى المباهلة التي تكررت معهم ومع النصارى ومع المشركين:
{قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}..
والمباهلة معناها وقوف الفريقين المتنازعين وجهاً لوجه، ودعاؤهما معاً إلى الله أن ينكل بالمبطل منهما.. وقد خاف كل من دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه المباهلة ونكلوا عنها، ولم يقبلوا التحدي فيها. مما يدل على أنهم في قرارة نفوسهم كانوا يعرفون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقية هذا الدين.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الزرقي، حدثنا أبو يزيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم ابن مالك الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل لعنه الله إن رأيت محمداً عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عياناً». ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالا.
وقد لا تكون هذه مباهلة ولكن مجرد تحد لهم، بما أنهم يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس. فما يخيفهم إذن من الموت، ويجعلهم أجبن خلق الله؟ وهم حين يموتون ينالون ما عند الله مما يلقاه الأولياء والمقربون؟!
ثم عقب على هذا التحدي بما يفيد أنهم غير صادقين فيما يدعون، وأنهم يعرفون أنهم لم يقدموا بين أيديهم ما يطمئنون إليه، وما يرجون الثواب والقربى عليه، إنما قدموا المعصية التي تخيفهم من الموت وما وراءه. والذي لم يقدم الزاد يجفل من ارتياد الطريق:
{ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين}..
وفي نهاية الجولة يقرر حقيقة الموت وما بعده، ويكشف لهم عن قلة الجدوى في فرارهم من الموت، فهو حتم لا مهرب منه، وما بعده من رجعة إلى الله، وحساب على العمل حتم كذلك لا ريب فيه:
{قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
وهي لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين. تقر في الأخلاد حقيقة ينساها الناس، وهي تلاحقهم أينما كانوا.. فهذه الحياة إلى انتهاء. والبعد عن الله فيها ينتهي للرجعة إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه. والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة. فلا مهرب ولا فكاك.
روى الطبري في معجمه من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعاً: مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب، تطلبه الأرض بديْن، فجاء يسعى، حتى إذا أعيا وأنهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب! ديْني. فخرج له حصاص. فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات..
وهي صورة متحركة موحية عميقة الإيحاء..
والآن يجيء المقطع الأخير في السورة خاصاً بتعليم يتعلق بالجمعة، بمناسبة ذلك الحادث الذي وقع ربما أكثر من مرة، لأن الصيغة تفيد التكرار:
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.
{وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قآئماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}..
وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة، التي لا تصح إلا جماعة.. وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله. وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة؛ وكلاهما عبادة. وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب.
جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل».